فصل: بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ):

قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَيُحَرِّضَ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَيَقول: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَيَقول لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا رَفَعَ الْخُمُسَ لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} وَهَذَا نَوْعُ تَحْرِيضٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذَكَرَ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ (وَلَا يُنَفِّلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ.
قَالَ: (إلَّا مِنْ الْخُمُسِ) لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ (وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصْبُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرَ غِنَاءً فَيَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَيُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك» وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا رَوَيْنَاهُ.
وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ لَا تُعْتَبَرُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ) نَوْعٌ مِنْ الْقِسْمَةِ فَأَلْحَقَهُ بِهَا، وَقَدَّمَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّهَا بِضَابِطٍ وَهَذَا بِلَا ضَابِطٍ لِأَنَّهُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِأَنْ يُنَفِّلَ قَلِيلًا وَكَثِيرًا وَنَحْوَهُمَا.
وَالتَّنْفِيلُ إعْطَاءُ الْإِمَامِ الْفَارِسَ فَوْقَ سَهْمِهِ، وَهُوَ مِنْ النَّفْلِ وَهُوَ الزَّائِدُ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِلزَّائِدِ عَلَى الْفَرْضِ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَيُقَالُ نَفَّلَهُ تَنْفِيلًا وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفْلًا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ.
قولهُ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ) أَيْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَفِّلَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ تَحْرِيضٌ، وَالتَّحْرِيضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ مَا سَلَف بِأَنَّ قول مَنْ قَالَ لَفْظٌ لَا بَأْسَ إنَّمَا يُقَالُ لِمَا تَرَكَهُ أَوْلَى لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْرِيضَ وَاجِبٌ لِلنَّصِّ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّنْفِيلِ لِيَكُونَ التَّنْفِيلُ وَاجِبًا بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ أَيْضًا مِنْ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ التَّنْفِيلُ أَحَدَ خِصَالِ التَّحْرِيضِ كَانَ التَّنْفِيلُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ إذَا كَانَ هُوَ أَدْعَى الْخِصَالِ إلَى الْمَقْصُودِ يَكُونُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ أَوْلَى وَهُوَ الْمَنْدُوبُ فَصَارَ الْمَنْدُوبُ اخْتِيَارَ الْإِسْقَاطِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَا هُوَ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي التَّنْفِيلِ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ وَتَوْهِينُ الْآخَرِينَ وَتَوْهِينُ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِلَّا حَرَّمَ التَّنْفِيلَ لِاسْتِلْزَامِهِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقولهِ حَالَ الْقِتَالِ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَنَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِسَلْبِ الْمَقْتُولِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا» فَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَرْبِ فِي حُنَيْنٍ (قولهُ فَيَقول مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ) أَوْ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ (أَوْ يَقول لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ) النِّصْفَ أَوْ (الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ) أَيْ بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ أَمَّا لَوْ قَالَ لِلْعَسْكَرِ كُلُّ مَا أَخَذْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ لِلسَّرِيَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ السُّهْمَانِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ إذًا فِيهِ تَسْوِيَةُ الْفَارِسِ بِالرَّاجِلِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ.
ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قولهِ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ فِيهِمَا، وَهُوَ بُطْلَانُ السُّهْمَانِ الْمَنْصُوصَةِ بِالسَّوِيَّةِ، بَلْ وَزِيَادَةُ حِرْمَانِ مَنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا أَصْلًا بِانْتِهَائِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ، وَالْفَرْعُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْحَوَاشِي، وَبِهِ أَيْضًا يَنْتَفِي مَا ذَكَرَ مِنْ قولهِ إنَّهُ لَوْ نَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ جَازَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ إيحَاشِ الْبَاقِينَ وَزِيَادَةُ الْفِتْنَةِ، وَلَا يُنَفِّلُ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ جَازَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ.
ثُمَّ مَحَلُّ التَّنْفِيلِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَمَا بَقِيَ لِلْغَانِمِينَ.
قُلْنَا: إنَّمَا هِيَ حَقُّهُمْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، أَمَّا قَبْلَهَا فَهُوَ مَالُ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّنْفِيلِ إنَّمَا هُوَ مِمَّا يُصَابُ لَا حَالَ كَوْنِهِ مَا لَهُمْ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْإِصَابَةِ، وَعِنْدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يَبْقَ مَالُ الْكَفَرَةِ.
نَعَمْ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ ضَعِيفٌ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقِتَالُ وَقَعَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ هَجَمَهَا الْعَدُوُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِصَابَةِ صَارَ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ قولهُ: (لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ).
أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُمْ فَهُوَ لِلْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ كَذَا لَا يَجُوز إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِهِمْ.
أُجِيبُ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ الْمُنَفِّلِ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ يَكْفِي لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مَصَارِفُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَهُ فِي الْغِنَى وَيَجْعَلَ نَفْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْمُحْتَاجِينَ لَا الْأَغْنِيَاءِ، فَجَعْلُهُ لِلْأَغْنِيَاءِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ قولهُ (وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ) وَهُوَ قول مَالِكٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّهْمِ أَوْ الرَّضْخِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ الْأَوَّلَ قولا وَاحِدًا.
وَلَهُ فِيمَنْ يَرْضَخُ لَهُ قولانِ: أَحَدُهُمَا كَقول أَحْمَدَ، وَالثَّانِي لَا سَلَبَ لَهُ.
وَشَرَطَا أَنْ يَقْتُلَهُ مُقْبِلًا لَا مُدْبِرًا، وَأَنْ لَا يَرْمِيَ سَهْمًا إلَى صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَيُصِيبَ وَاحِدًا فَيَقْتُلَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ غِنَاءً كَثِيرًا، إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، قَالَ: فَقُمْت فَقُلْت مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْت، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، فَقُمْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ: يَعْنِي قِصَّةَ قَتْلِهِ لِلْقَتِيلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَاهَا اللَّهِ إذَنْ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيَك سَلَبَهُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ، قَالَ فَأَعْطَانِيهِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ أَنَّ هَذَا مِنْهُ نَصْبَ الشَّرْعِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، أَوْ كَانَ تَحْرِيضًا بِالتَّنْفِيلِ قَالَهُ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ وَغَيْرِهَا يَخُصُّهُمَا؛ فَعِنْدَهُ (هُوَ نَصْبُ الشَّرْعِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي قولهِ (لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ) وَقُلْنَا: كَوْنُهُ تَنْفِيلًا هُوَ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ الشَّرْعِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ (بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك») فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مُحْتَمِلَيْ قوله: «وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَهُوَ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْغُزَاةِ لَا نِصَابٌ عَامٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ حَسَنٌ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَوْ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ: بَلَغَ حَبِيبَ بْنَ مُسْلِمَةَ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُصَ خَرَجَ يُرِيدُ طَرِيقَ أَذْرَبِيجَانَ وَمَعَهُ زُمُرُّدٌ وَيَاقُوتٌ وَلُؤْلُؤٌ وَغَيْرُهَا فَخَرَجَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ بِمَا مَعَهُ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَهُ فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ: لَا تَحْرِمْنِي رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ مُعَاذٌ: يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ» وَهَذَا مَعْلُولٌ بِعَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مُعَسْكِرِينَ بِدَابِقٍ فَذَكَرَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ إلَى أَنْ قَالَ: فَجَاءَ بِسَلَبِهِ يَحْتَمِلُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَبْغَالٍ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، فَأَرَادَ حَبِيبٌ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقول بَعْضَهُ، فَقَالَ حَبِيبٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِلْأَبَدِ، وَسَمِعَ مُعَاذٌ ذَلِكَ فَأَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ وَحَبِيبٌ يُخَاصِمُهُ، فَقَالَ مُعَاذٌ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَأْخُذُ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك، فَإِنَّمَا لَك مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك، وَحَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْطَوْهُ بَعْضَ الْخُمُسِ، فَبَاعَهُ حَبِيبٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهِ كَمَا تَرَى مَجْهُولٌ.
وَيَخُصُّ الْمُصَنِّفَ أَنَّهُ جَعَلَهُ خِطَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَبِيبٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَمَّاهُ حَبِيبَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَصَوَابُهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَلَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّ ضَعْفُهُ، فَإِنَّا إنَّمَا نَسْتَأْنِسُ بِهِ لِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْ لَفْظٍ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ بَعْدَمَا رَأَى سَيْفَيْهِمَا:«كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، ثُمَّ قَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَحْدَهُ» وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْقَاتِلِ لَقَضَى بِهِ لَهُمَا، إلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ دَفَعَهُ بِأَنَّ غَنِيمَةَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصِّ الْكِتَابِ يُعْطِي مِنْهَا مَنْ شَاءَ، وَقَدْ قَسَّمَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَحْضُرُوا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ بَدْرٍ فَقَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى.
يَعْنِي مَا كَانَ إذْ ذَاكَ قَالَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَالَ فِي بَدْرٍ أَيْضًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بِأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ بِنَا جُبْنٌ عَنْ الْعَدُوِّ وَلَا ضَنٌّ بِالْحَيَاةِ أَنْ نَصْنَعَ مَا صَنَعَ إخْوَانُنَا وَلَكِنَّا رَأَيْنَاكَ قَدْ أَفْرَدْت فَكَرِهْنَا أَنْ نَدْعَكَ بِمَضْيَعَةٍ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَزِّعُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ»، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَهُ لَيْسَ نَصْبُ الشَّرْعِ لِلْأَبَدِ.
وَهُوَ وَإِنْ ضَعُفَ سَنَدُهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا.
فِي أَبِي دَاوُد وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ الرَّاوِي عَنْ خُصُوصِ مَا قَالَهُ.
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنِّي دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَإِنَّ الْحَالَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَا الْحَالُ يَقْتَضِي ذَاكَ لِقِلَّتِهَا أَوْ عَدَمِهَا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمُكَنِّيَ عَنْهُ الرَّاوِي هُوَ السَّلَبُ، وَمَا أُخِذَ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ أَنْ يَحْصُلُ فِي الْحَرْبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ بَاطِلًا فَيَقَعُ الظَّنُّ بِصِحَّةِ جَعْلِهِ فِي بَدْرٍ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَالْمَأْخُوذُ لِلْآخِذِ فَيَجِبُ قَبُولُهُ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَظَافَرَتْ بِهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قوله: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» أَنَّهُ لَيْسَ نَصْبًا عَامًّا مُسْتَمِرًّا، وَالضَّعِيفُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ يَرْتَقِي إلَى الْحَسَنِ فَيَغْلِبُ الظَّنَّ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قولهِ كَذَا وَكَذَا فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ فِئْتُمْ إلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الْفِتْيَانُ ذَلِكَ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا الْحَدِيثَ.
فَقولهُ جَعَلَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا هُوَ جَعْلُهُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْمَأْخُوذُ لِلْآخِذِينَ.
وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا.
قَالَ: خَرَجْت مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِي مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ، وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ فَعَلَاهُ وَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ سَلَبَ الرُّومِيِّ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْت خَالِدًا فَقُلْت لَهُ: يَا خَالِدُ أَمَّا عَلِمْت «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ»، قَالَ بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْت: لَتَرُدَّنَّهُ أَوْ لِأُعَرِّفَنكهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ.
قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ الْمَدَدِيُّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا خَالِدُ رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْت مِنْهُ، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْت دُونَكَ يَا خَالِدُ أَلَمْ أَفِ لَكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي أُمَرَائِي لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» فَفِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ رَدُّ قول مَنْ قَالَ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُل: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» إلَّا فِي حُنَيْنٍ، فَإِنَّ مُؤْتَةَ كَانَتْ قَبْلَ حُنَيْنٍ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَوْفٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ» قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مَنَعَ خَالِدًا مِنْ رَدِّهِ بَعْدَمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَنْفِيلًا وَأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ تَنْفِيلًا طَابَتْ نَفْسُ الْإِمَامِ لَهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَازِمًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ.
وَقول الْخَطَابِيِّ: إنَّمَا مَنَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى عَوْفٍ سَلَبَهُ زَجْرًا لِعَوْفٍ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَخَالِدٌ كَانَ مُجْتَهِدًا، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْيَسِيرُ مِنْ الضَّرَرِ يَتَحَمَّلُ لِلْكَثِيرِ مِنْ النَّفْعِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَبَ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي تَجَرَّأَ وَهُوَ عَوْفٌ وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَدَدِيِّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَغَضَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَى عَوْفٍ مِنْ مَنْعِ السَّلَبِ وَأَزْجَرَ لَهُ مِنْهُ.
فَالْوَجْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَبَّ أَوَّلًا أَنْ يُمْضِيَ شَفَاعَتَهُ لِلْمَدَدِيِّ فِي التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا غَضِبَ مِنْهُ رَدَّ شَفَاعَتَهُ وَذَلِكَ بِمَنْعِ السَّلَبِ لَا أَنَّهُ لِغَضَبِهِ وَسِيَاسَتِهِ يَزْجُرُهُ بِمَنْعِ حَقٍّ آخَرَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ جِنَايَةٌ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا لَازِمًا.
قولهُ (وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ) جَوَابٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِكَوْنِهِ يَقْتُلُهُ مُقْبِلًا فَقَالَ زِيَادَةُ الْغِنَاءِ (فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا تُعْتَبَرُ) مُوجِبَةً زِيَادَةً مِنْ الْمَغْنَمِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ.
وَقولهُ (كَمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مَا قَدَّمَهُ فِي أَوَّلِ فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ بَلْ نَفْسُ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شَاهِدٍ بِأَنَّ إغْنَاءَ هَذَا فِي هَذَا الْحَرْبِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَلَا يَكْفِي زِيَادَةُ شُهْرَةٍ هَذَا دُونَ ذَلِكَ؛ إذْ لَا بُعْدَ أَنْ يَتَّفِقَ إغْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْمَشْهُورِ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مِنْ الْمَشْهُورِ، أَوْ يُشِيرَ إلَى قولهِ؛ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.

متن الهداية:
(وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ، وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ، وَكَذَا مَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالِهِ فِي حَقِيبَتِهِ أَوْ عَلَى وَسَطِهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَلَبٍ) وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ بِسَلَبِهِ، ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا لَا يَبِيعُهَا.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَبِيعَهَا، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(وَقولهُ وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ وَمَا عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ وَمَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَتِهِ وَمَا عَلَى وَسَطِهِ) مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ (وَمَا) سِوَى ذَلِكَ مِمَّا (هُوَ مَعَ غُلَامِهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ فَلَيْسَ مِنْهُ) بَلْ حَقُّ الْكُلِّ.
وَالْحَقِيبَةُ الرِّفَادَةُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَتَبِ، وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْته فِي مُؤْخِرَةِ رَحْلِك أَوْ قَتَبِك فَقَدْ اسْتَحْقَبْتَهُ.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالطَّوْقِ وَالسِّوَارِ وَالْخَاتَمِ وَمَا فِي وَسَطِهِ مِنْ النَّفَقَةِ وَحَقِيبَتِهِ قولانِ: أَحَدُهُمَا لَيْسَ مِنْ السَّلَبِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ السَّلَبِ وَهُوَ قولنَا وَعَنْ أَحْمَدَ فِي بُرْدَتِهِ رِوَايَتَانِ.
قولهُ: (ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطْعُ حَقِّ الْبَاقِينَ) فَقَطْ (وَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ مِنْ قولهِ: وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ إلَخْ (حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ) وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ (فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ فَاسْتَبْرَأَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا) فِي دَارِ الْحَرْبِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَطَأَهَا) وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ فَصَارَ كَالْمُخْتَصِّ بِشِرَائِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ قَسْمِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجْتَهِدًا حَيْثُ يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ إذَا أَخَذَ جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاسْتَبْرَأَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَا اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ شَارَكُوهُ فِيهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الْقَهْرُ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقْهُورَ دَارًا وَقَاهِرَ يَدًا فَيَكُونُ السَّبَبُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لَا أَثَرَ لِلتَّنْفِيلِ فِي إثْبَاتِ الْقَهْرِ بَلْ فِي قَطْعِ حَقِّ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي كُلِّ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ بِالتَّرَاضِي لَا الْقَهْرُ وَقَدْ تَمَّ، وَعَدَمُ الْحِلِّ لِلْمُتَلَصِّصِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ أَيْضًا قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا لِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ لُحُوقَ الْجَيْشِ مَوْهُومٌ فَلَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمِلْكِ يَتِمُّ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ خِلَافٌ.
قِيلَ نَعَمْ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَتِمُّ مِلْكُ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ فَيَطَؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُشْتَرَاةِ، وَجَعَلَ الْأَظْهَرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَدَمَ الْحِلِّ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِمُحَمَّدٍ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقوليْنِ.
وَقولهُ (وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ) ذَكَرَهُ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تَرُدُّ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُتْلِفَ لِسَلَبٍ نَفَّلَهُ الْإِمَامُ رَجُلًا يَضْمَنُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَوَرَدَ عَلَيْهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ دَلِيلُ تَمَامِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحِلَّ الْوَطْءَ عِنْدَكُمَا أَيْضًا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ بَلْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا.
وَفِي نُسْخَةٍ وَقَدْ قِيلَ بِالْوَاوِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ:

(إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ فِي مَالٍ مُبَاحٍ وَهُوَ السَّبَبُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ).
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَائِنَا عَلَيْهِمْ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَحُكْمِ اسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْنَا وَتَقْدِيمُهُ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي ظَاهِرٌ.
قولهُ: (وَإِذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ) أَيْ كُفَّارُ التُّرْكِ عَلَى كُفَّارِ الرُّومِ (فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ) عَنْ قَرِيبٍ (فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ مَالٍ) أَيْ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرُّومِ مُوَادَعَةٌ؛ لِأَنَّا لَمْ نَغْدِرْهُمْ إنَّمَا أَخَذْنَا مَالًا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِمْ.
وَلَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُوَادَعَةٌ فَاقْتَتَلُوا فَغَلَبَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْمَغْنُومَ مِنْ مَالِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مِنْ الْغَانِمَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالْإِحْرَازُ بِدَارِ الْحَرْبِ شَرْطٌ، أَمَّا بِدَارِهِمْ فَلَا.
وَلَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُوَادَعَةٌ وَاقْتَتَلُوا فِي دَارِنَا لَا نَشْتَرِي مِنْ الْغَالِبِينَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَيَكُونُ شِرَاؤُنَا غَدْرًا بِالْآخَرِينَ فَإِنَّهُ عَلَى مِلْكِهِمْ.
وَأَمَّا لَوْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ الْغَالِبِينَ نَفْسًا أَوْ مَالًا؟ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ بَيْنَ الْمَأْخُوذِ وَبَيْنَ الْآخِذِ قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ كَالْأُمِّيَّةِ أَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْآخِذِ لَمْ يَجُزْ إلَّا إنْ دَانُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ دَانُوا بِأَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ مَلَكَهُ جَازَ الشِّرَاءُ، وَإِلَّا لَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ.
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا، وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ الْآجِلُ فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الْعَاجِلِ؟.
(فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيه: «إنْ وَجَدْته قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْته بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِالْقِيمَةِ» وَلِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ زَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ نَظَرًا لَهُ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ فَيَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالشَّرِكَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَامَّةٌ فَيَقِلُّ الضَّرَرُ فَيَأْخُذُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا) وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَمْلِكُونَهَا.
وَلِأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَقولنَا وَكَقول مَالِكٍ: فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ أَنَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا أَخَذُوهُ فَيَأْكُلَهُ وَيَطَأَ الْجَارِيَةَ لِمِلْكِهِمْ كُلَّ ذَلِكَ.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُونَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ) أَيْ اسْتِيلَاءَهُمْ عَلَى أَمْوَالِنَا (مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً) عِنْدَ الْأَخْذِ (وَانْتِهَاءً) عِنْدَ صَيْرُورَتِهَا فِي دَارِهِمْ؛ لِبَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَالِ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ عِصْمَةُ الْمَالِكِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إجْمَاعًا.
(وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَتِهِ) فَصَارَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَكَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مُسْنَدًا إلَى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: «كَانَتْ الْعَضْبَاءُ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ، فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ الْعَضْبَاءُ وَأَسَرُوا امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا يُرِيحُونَ إبِلَهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتْ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نَامُوا فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى أَتَتْ عَلَى الْعَضْبَاءِ، فَأَتَتْ عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ فَرَكِبَتْهَا ثُمَّ وَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَنَذَرَتْ لَئِنْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَجَّاهَا عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَرَفَتْ النَّاقَةَ، فَأَتَوْا بِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا، فَقَالَ: بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا أَوْ وَفَّيْتِيهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ».
وَفِي لَفْظٍ: فَأَخَذَ نَاقَتَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَ بِالْإِحْرَازِ لَمَلَكَتْهَا الْمَرْأَةُ لِإِحْرَازِهِمْ إيَّاهَا.
وَلِلْجُمْهُورِ أَوْجُهٌ مِنْ النَّقْلِ وَالْمَعْنَى، فَالْأَوَّلُ قوله تَعَالَى «لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ» سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوا أَمْوَالَهُمْ الَّتِي خَلَّفُوهَا وَهَاجَرُوا عَنْهَا، وَلَيْسَ مَنْ مَلَكَ مَالًا وَهُوَ فِي مَكَان لَا يَصِلُ إلَيْهِ فَقِيرًا بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذَا عُطِفُوا عَلَيْهِمْ فِي نَصِّ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُونَ مِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّه: «قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَتْحِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ. وَرُوِيَ أَتَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ»، وَإِنَّمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ عَقِيلًا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، فَإِنَّ عَقِيلًا إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الرِّبَاعِ بِإِرْثِهِ إيَّاهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا مُسْلِمَيْنِ وَعَقِيلًا وَطَالِبًا كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهُ، لَا أَنَّ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَاجَرَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ: «وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ نَاقَةً لَهُ، فَارْتَفَعَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ شِئْت أَنْ تَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَنْتَ أَحَقُّ، وَإِلَّا فَخَلِّ عَنْ نَاقَتِهِ» وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنِدًا عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.
وَفِي سَنَدِهِ يَاسِينُ الزَّيَّاتُ مُضَعَّفٌ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيمَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ: إنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قُسِّمَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ» وَضُعِّفَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَمَا قُسِّمَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ» وَضُعِّفَ بِإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ رِشْدِينُ وَضَعَّفَهُ بِهِ.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعا: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ» وَفِيهِ يَاسِينُ ضُعِّفَ بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مَا أَخَذَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَمَا قُسِّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إلَّا بِالْقِيمَةِ.
قَالَ: وَهَذَا إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا وَكِلَاهُمَا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: فِيمَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَرَفَهُ صَاحِبُهُ: أَيْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ السِّهَامُ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ إلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ.
وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ اشْتَرَى مَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَشُكُّ بَعْدَ هَذِهِ الْكَثْرَةِ فِي نَفْيِ أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَيَدُورُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَضْعِيفٍ بِالْإِرْسَالِ أَوْ التَّكَلُّمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِلَا شَكٍّ يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ، وَأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ.
وَيَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ لِلْكُلِّ فِي ذَلِكَ، وَتَوَافَقُوا فِي هَذَا الْغَلَطِ، بَلْ لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ الضَّعِيفَ إذَا كَثُرَ مَجِيءُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ يَكُونُ مِمَّا أَجَادَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الضَّعِيفَ الْغَلَطُ دَائِمًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ حَالِهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ.
هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الصَّحِيحِ.
وَحَدِيثُ الْعَضْبَاءِ كَانَ قَبْلَ إحْرَازِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ أَلَا يُرَى إلَى قولهِ وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا إلَخْ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ: (الِاسْتِيلَاءُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ) يَعْنِي الِاسْتِيلَاءَ الْكَائِنَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ (فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ) فَإِنَّهُ مَا تَمَّ لَنَا الْمَلِكُ فِيهِ إلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُ مُبَاحًا إذْ ذَاكَ (لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ) وَهُوَ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْأَمْوَالِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ (لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمُحْتَاجِ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ) مِنْ الِانْتِفَاعِ (عَادَ مُبَاحًا) وَزَوَالُهَا عَلَى التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، فَإِنَّ الْإِحْرَازَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَامًّا وَهُوَ (الِاقْتِدَارُ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا) بِالِادِّخَارِ إلَى وَقْتِ حَاجَتِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا أَحْرَزْنَا أَمْوَالَهُمْ لَا تَزُولُ أَمْلَاكُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَمُكْنَةَ الِانْتِفَاعِ ثَابِتَةٌ مَعَ اتِّحَادِ الدَّارِ وَالْمِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِالشَّكِّ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قولهِ: الْمَحْظُورُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ.
فَقَالَ: ذَاكَ فِي الْمَحْظُورِ لِنَفْسِهِ (أَمَّا الْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ فَلَا فَإِنَّا وَجَدْنَاهُ صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ) كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ (فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الدُّنْيَوِيِّ) وَالْقِيَاسُ عَلَى اسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا، وَكَذَا عَلَى غَصْبِ الْمُسْلِمِ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إحْرَازٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَاغِي.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِصْمَةَ إنْ أُزِيلَتْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ لَا يَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ مَحْظُورًا لِيَحْتَاجَ إلَى هَذَا الْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَالَتْ لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِسْلَامِ، وَالْمُقَوَّمَةَ زَالَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالدَّارِ.
وَقَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ الْمِلْكُ زَالَ تَبَعًا لِزَوَالِ الْقِيمَةِ صَارَ مُبَاحًا وَعَادَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ لَزِمَ الثَّانِي فَالْمَدَارُ الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُهَا.
ثُمَّ الْوَجْهُ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنْ أُرِيدَ بِهِ ابْتِدَاءُ الْأَخْذِ أَوْ إدْخَالُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَجِبُ كَوْنُهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَهُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ الْغَصْبِ؛ لِقِيَامِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَهُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، كَذَا أُورِدَ فِي الْأُصُولِ عَلَى كَوْنِ الْغَصْبِ يُفِيدُ الْمِلْكَ ذَلِكَ.
أُجِيبُ بِأَنَّ الْمُفِيدَ لَهُ هُوَ الضَّمَانُ عَلَى مَا فِي تَوْجِيهِهِ مِنْ الْكَلَامِ، بَلْ نَقول: لَيْسَ الِاسْتِيلَاءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِمِلْكِهِ وَلَا الْإِدْخَالُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَلْ الْإِدْخَالُ سَبَبُ زَوَالِ مُكْنَةِ الِانْتِفَاعِ وَزَوَالُ مُكْنَةُ الِانْتِفَاعِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ لَا يَتَّصِفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ.
ثُمَّ الِاسْتِيلَاءُ الْكَائِنُ فِي الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ الْمُبَاحِ سَبَبُ مِلْكِ الْكَافِرِ، وَهَذَا الِاسْتِيلَاءُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، وَإِبَاحَتُهُ مُسَبَّبَةٌ عَمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَهُوَ زَوَالُ الْمُكْنَةِ، فَأَمَّا الْأَخْذُ وَمَا يَلِيهِ فَأَسْبَابٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَكَانَ الْوَجْهُ مَنْعَ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُنَا مَحْظُورٌ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُبَاحٌ.
وَالسَّبَبُ الْبَعِيدُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُسَبَّبِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْبَعِيدَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْمَعْلُولِ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَعْقِبُ إبَاحَةً أَصْلًا.
وَقول بَعْضِهِمْ فِي التَّقْرِيرِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مَحْظُورٍ مَعْصُومٍ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَاءَهُمْ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَبَعْدَهُ ارْتَفَعَتْ الْعِصْمَةُ فَوَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، كَمَالِ الْمُسْلِمِ ثَمَّةَ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَالُهُ مَعْصُومٌ عَلَيْهِ غَيْرُ الْعَقَارِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ بَلْ يَكْفِي الْمَنْعُ بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ إلَخْ.
قولهُ: (فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا؛ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ إنْ وَجَدْته إلَخْ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ وَنَظَائِرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا كَانَ حُكْمًا لَازِمًا يَقْتَضِي قِيَامَ مِلْكِهِ.
أُجِيبُ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْوَاهِبَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَهَبَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ شَرْعًا، وَكَذَا الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَالِكِ الْمُشْتَرِي فِي الْأَخْذِ وَلَا مِلْكَ لَهُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي الشَّرْعِ صُوَرًا يُقَدَّمُ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا أَرَيْنَاك فَلَأَنْ يُقَدَّمَ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ أَوْلَى وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِي الْمَغْنُومِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَجَبْرُ ضَرُورَةِ الْقَوِيِّ بِضَرَرٍ يَسِيرٍ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ أَوَّلًا فِي الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ، وَثَانِيًا هِيَ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ فَيَخِفُّ ضَرَرُ كُلِّ وَاحِدٍ خِفَّةً كَثِيرَةً.
وَصُورَةُ الشَّفِيعِ شَبِيهَةٌ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِتَقَدُّمِهِ فِي إثْبَاتِ مِلْكٍ مُنْتَفٍ بِإِزَالَةِ مِلْكٍ مَوْجُودٍ بِالثَّمَنِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْجِوَارِ أَوْ الْخُلْطَةِ مَعَ دَفْعِ ضَرَرِ إتْلَافِ مَالِ الْآخَرِ، وَأَشْبَهَ بِالتَّاجِرِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ ثَابِتٍ بِعِوَضٍ بِإِحْدَاثِ مِلْكٍ زَائِلٍ بِعِوَضٍ بِقَدْرِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا لَمْ يُزِلْ الْمِلْكَ الْخَاصَّ الْحَادِثَ لِلْغَازِي فِي مُقَابَلَةِ غَنَاءٍ حَصَلَ لَهُ لَا بِمُقَابَلَةِ مَالٍ بَذَلَهُ إلَّا بِبَدَلِهِ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ وَيَخِفَّ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَأَنْ لَا يُزِيلَهُ بِرَفْعِ مِلْكٍ حَصَلَ بِعِوَضٍ بِإِحْدَاثِ مِلْكٍ إلَّا بِعِوَضٍ؛ لِيَعْتَدِلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْلَى.

متن الهداية:
(وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَاشْتَرَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَالِكُهُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ)؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ اعْتِدَالُ النَّظَرِ فِيمَا قُلْنَاهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ، وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا وَهُوَ مِثْلِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ) أَنَّ التَّاجِرَ (اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ) هَذَا وَلَوْ تَرَكَ أَخْذَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِشِرَائِهِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ زَمَانًا طَوِيلًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَيْسَ لَهُ كَالشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ (وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ أَخَذَهُ مَالِكُهُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ) فِي مُقَابَلَةِ مَا كَالْمَالِ أَوْ أَثْقَلَ مِنْ الْمَالِ إذْ الْمَالُ ثَابِتٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمُكَافَأَةَ مَطْلُوبَةٌ وَالظَّاهِرُ إيقَاعُهَا (فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ) وَقَدْ يُمْنَعُ هَذَا بِالرُّجُوعِ.
وَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ مِثْلِيًّا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالْعَسَلِ وَالزَّيْتِ ثُمَّ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ (لِأَنَّ أَخْذَهُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ) الْمِثْلِيُّ (مَوْهُوبًا) مِنْ الْكَافِرِ لِلْمُخْرِجِ لَهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْمِثْلُ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِمَا قُلْنَا.
(وَكَذَا إذَا كَانَ) الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْكُفَّارِ (مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا) لَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَقُيِّدَ بِقولهِ قَدْرًا وَوَصْفًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ قَدْرًا مِنْهُ أَوْ بِجِنْسِهِ لَكِنْ أَدْوَنُ مِنْهُ أَوْ أَحْسَنُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِ مَا أَعْطَى الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ.
فَرْعٌ:
اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُشْتَرِي مِنْهُمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْقول قول الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ بِمَا يُقِرُّ هُوَ بِهِ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ) أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا (وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ، فَلَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمَّا تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ صَارَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِيهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، أَمَّا هَاهُنَا الْمِلْكُ صَحِيحٌ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ، وَأَخَذَ أَرْشَهَا، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ صَحِيحٌ)؛ لِأَنَّهُ آخِذٌ بَدَلِ مِلْكٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ (فَلَوْ أَخَذَهُ) أَيْ الْأَرْشَ (أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ) دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَلَوْ أَخَذَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَبَاعَهَا الْغَانِمُ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فَأَرَادَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ ذَلِكَ بِأَلْفٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِحِصَّتِهِ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْأَخْذِ، فَمَا أَصَابَ كُلًّا فَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَلْفِ.
(وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ) بِمَا نَقَصَ مِنْ عَيْنِهِ (لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ) بِمَا نَقَصَ مِنْ عَيْنِ الْعَبْدِ وَالْعَيْنُ كَالْوَصْفِ؛ لِأَنَّهَا يَحْصُلُ بِهَا وَصْفُ الْإِبْصَارِ، وَقَدْ فَاتَتْ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ فَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَابَلْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَبِفَوَاتِهِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ.
وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَقَدْ نَفَيَاهُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَطْلُبَ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَذَهَبَتْ يَدُهُ أَوْ عَيْنُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْعُقْرُ كَالْأَرْشِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ، أَمَّا إذَا صَارَ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنْ الثَّمَنِ مَا يَخُصُّ الْعَيْنَ، وَلَوْ اعْوَرَّتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُحَطُّ بَلْ يُرَابَحُ عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ، وَكَذَا فِي الشُّفْعَةِ إذَا كَانَ فَوَاتُ وَصْفِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ بِفِعْلٍ قَصْدِيٍّ قُوبِلَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ شَخْصٌ بَعْضَ بِنَاءِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتَهُ، وَلَوْ فَاتَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَأَنْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَبِهَذَا أُورِدَ عَلَى إطْلَاقِ قولهِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَصْدِيِّ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ فَالشُّفْعَةُ وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا سَوَاءٌ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ، وَمَوْضِعُ وُجُوبِ اجْتِنَابِ الشُّبْهَةِ كَمَا ذَكَرْت مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانَةِ دُونَ الْخِيَانَةِ، وَلِلشُّبْهَةِ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ فِيهَا وَالْمِلْكُ فِي الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي كَالْفَاسِدِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ تَحْوِيلِهِ إلَيْهِ.
أَمَّا فِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُشْبِهُ الْفَاسِدَ فَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْعَيْنَ لَا غَيْرُ.
وَقولهُ: لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تُضْمَنُ فِيهِ: أَيْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ كَالْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ فَسْخِ السَّبَبِ، فَالْأَصْلُ فِي تَقَوُّمِ الصِّفَاتِ هُوَ الْغَصْبُ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَالِكِ وَمُبَالَغَةً فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ دُونَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِتَحَقُّقِ التَّرَاضِي فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ تَرَاضِيَهُمَا فِي حَقِّ الْحِلِّ، وَطَلَبَ رَدَّ كُلٍّ مِنْهُمَا بَدَلَهُ إلَى الْآخَرِ.
وَفِي الْكَافِي: وَلِأَنَّ الْأَخْذَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الصَّحِيحِ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ثَبَتَ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ نَصًّا وَهُوَ قولهُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يُحَطُّ عَنْهُ.
هَذَا وَلَوْ أَنَّهُ فَقِئَ عَيْنَاهُ عِنْدَ الْغَازِي الْمَقْسُومِ لَهُ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَسَلَّمَهُ لِلْفَاقِئِ فَلِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَخْذُهُ مِنْ الْفَاقِئِ بِقِيمَتِهِ أَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: بِقِيمَتِهِ سَلِيمًا وَهِيَ الَّتِي أَعْطَاهَا الْفَاقِئُ لِلْمَوْلَى.
لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّتَ وَصْفًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ.
وَلَهُ أَنَّهُ طَرَفٌ وَهُوَ مَقْصُودٌ فَهُوَ كَفَوَاتِ بَعْضِ الْأَصْلِ فَيُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ كَالْوَلَدِ مَعَ الْأُمِّ، وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِمَسْأَلَةِ الْهِدَايَةِ، بَلْ الْوَجْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ فَوَاتَ الطَّرَفِ هُنَا بِفِعْلِ الَّذِي مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ سَلِيمًا ثُمَّ قَطَعَ طَرَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ رَاضِيًا بِتَنْقِيصِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْفَاقِئَ غَيَّرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
فَرْعٌ:
أَسَرُوا جَارِيَةً، وَأَحْرَزُوهَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ غَانِمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ، فَأَرَادَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَ الْوَلَدِ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ ذَلِكَ بِأَلْفٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْأَخْذِ، فَمَا أَصَابَ كُلًّا فَهُوَ حِصَّتُهُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ (وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ (ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِأَلْفَيْنِ إنْ شَاءَ)؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ فَيَأْخُذُهُ بِهِمَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ الثَّانِي غَائِبًا لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ حَضْرَتِهِ (وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارَنَا وَنَمْلِكُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْمَحَلُّ الْمَالُ الْمُبَاحُ، وَالْحُرُّ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ، بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِمْ وَجَعَلَهُمْ أَرِقَّاءَ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ أَسَرُوا) أَيْ الْكُفَّارُ (عَبْدًا) لِمُسْلِمٍ (فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ) مِنْهُمْ (بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا، وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ أَوَّلًا (أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي) وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّانِي غَائِبًا كَمَا سَيَذْكُرُ (لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ) بَلْ عَلَى الثَّانِي، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ أَخْذِهِ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ حَتَّى لَوْ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ إعْطَاؤُهُ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَهَبَهُ لَهُ أَخَذَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ الْكَافِرُ لِمُسْلِمٍ، ثُمَّ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِأَلْفٍ فَأَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخَذَهُ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ فَفِي مُقَابَلَةِ الْعَبْدِ الَّذِي غَرْضُهُ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَهُ بِأَلْفٍ يَفُوتُ الْأَلْفُ الْأُخْرَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا.
فَرْعٌ:
لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ إنْ مِثْلِيًّا فَبِمِثْلِهِ، أَوْ قِيَمِيًّا بِأَنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مُقَايَضَةً فَبِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَنْقُضَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ؛ لِيَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْأَوَّلُ وَالْوَجْهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ قولهُ: (وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ) الْكَائِنَةِ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ (مُدَبَّرِينَا وَلَا أُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَلَا مُكَاتَبِينَا وَلَا أَحْرَارَنَا، وَنَمْلِكُ نَحْنُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ) وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ (إنَّمَا يُفِيدُ الْحُكْمَ) وَهُوَ الْمِلْكُ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ (فِي مَحَلِّهِ، وَمَحَلُّهُ الْمَالُ الْمُبَاحُ وَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ) مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ مُدَبِّرِينَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ (لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمْ مِنْ وَجْهٍ) مَعَ الْإِسْلَامِ (بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً إلَى جِنَايَتِهِمْ) بِالْكُفْرِ (وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ).
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِمْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَوْ أَسَرُوا أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى دَارِهِمْ أَخَذَهُ مَالِكُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيُعَوِّضُ الْإِمَامُ مَنْ وَقَعَ فِي قَسْمِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قِيمَتَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى تَاجِرٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَلَا عِوَضٍ.

متن الهداية:
(وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ)؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ زَالَتْ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَوْهُوبًا كَانَ أَوْ مُشْتَرًى أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يُؤَدَّى عِوَضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ جُعْلُ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ) أَوْ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ (وَدَخَلَ إلَيْهِمْ) دَارَ الْحَرْبِ (فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ؛ لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لِلتَّمَلُّكِ مُحْرَزٍ بِدَارِ الْحَرْبِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمِلْكُ لَهُمْ، وَهَذَا (لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لِحَقِّ الْمَالِكِ وَقَدْ زَالَتْ) وَصَارَ كَمَا لَوْ نَدَّتْ إلَيْهِمْ دَابَّةٌ: أَيْ شَرَدَتْ مِنْ بَابِ ضَرَبَ إلَّا أَنَّ مَصْدَرَهُ جَاءَ نُدُودًا كَمَا جَاءَ عَلَى نَدًّا الْقِيَاسِيِّ، وَكَمَا لَوْ أَخَذُوا الْعَبْدَ الْآبِقَ أَوْ غَيْرَ الْآبِقِ مِنْ دَارِنَا إذَا أَحْرَزُوهُ حَيْثُ يَمْلِكُونَهُ فَكَذَا هَذَا.
(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَبْدَ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ فَلَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ حَبْسُهُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْبُوضًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ (لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لِلْمَوْلَى مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى) بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ (فَظَهَرَتْ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ) سَابِقَةً عَلَى يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُمْ إيَّاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَاخَى لَحْظَةً عَنْ دُخُولِهِ، وَإِذَا سَبَقَتْ يَدُهُ يَدَهُمْ (صَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلتَّمَلُّكِ، بِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ) فِي دَارِنَا إذَا أَخَذُوهُ (لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى قَائِمَةٌ عَلَيْهِ) مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا (لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ) فَيُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى وُجُودِهِ فَالِاقْتِدَارُ بَاقٍ (فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ) عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَا كَذَلِكَ الْمَأْذُونُ فِي الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ بِإِذْنِهِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ، وَبِخِلَافِ الدَّابَّةِ الَّتِي نَدَّتْ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي قول الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِلْيَدِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقول اعْتِبَارِهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ يُعَادُ عَلَى الظُّهُورِ أَيْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ ظُهُورِهِ (وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ مِلْكٌ فِيهِ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ مَوْهُوبًا) مِنْهُمْ لِلَّذِي أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (أَوْ مُشْتَرًى) مِنْهُمْ (أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا) إلَّا أَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ (يُؤَدِّي) الْإِمَامُ (عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ (لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ؛ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ، وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ) وَتَفَرُّقِ الْمَالِ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَيْدِي غَيْرِهِمْ بِتَصَرُّفِهِمْ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْحَرَجِ، وَبَيْتُ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ نَوَائِبِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَضَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قِسْمَتُهُ كَلُؤْلُؤَةٍ تُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا لَحِقَ غَرَامَةٌ كَانَ فِيهِ، وَلَا يُعْطَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا إذَا كَانَ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى.
فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِإِذْنِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ.
وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ فِي الْمُشْتَرِي وَبِالْقِيمَةِ فِي الْمَوْهُوبِ كَمَا فِي الْمَأْسُورِ غَيْرِ الْآبِقِ.
وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ فَأَبَقَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ اتِّفَاقًا، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مِنْ الْأَصْلِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ تَبَعًا لِمَوْلَاهُ، وَفِي الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَبَقَ قولانِ ذَكَرَهُ فِي طَرِيقِهِ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ قولهُ: (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ الْغَازِي أَوْ التَّاجِرِ (جَعْلُ الْآبِقِ)؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ إذَا أَخَذَهُ؛ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ عَامِلًا لَهُ وَهَاهُنَا إنَّمَا هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ إذْ لَا يَدَ لِلْعَجْمَاءِ لِتَظْهَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
(وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَصَاحِبُهُ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ نَدَّ بَعِيرٌ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ مَلَكُوهُ) وَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ إيَّاهُ أَنَّهُ (لَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَالِكًا مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ).
(فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاشْتَرَى رَجُلٌ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْفَرَسَ وَالْمَتَاعَ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَأْخُذُ الْعَبْدَ وَمَا مَعَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِي كُلِّ فَرْدٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ أَبَقَ عَبْدٌ إلَيْهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ بِفَرَسٍ وَمَتَاعٍ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمَتَاعَ وَالْفَرَسَ بِالثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ الْعَبْدَ أَيْضًا بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ) وَهَذِهِ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مِلْكِهِمْ الْعَبْدَ الْآبِقَ إلَيْهِمْ عِنْدَهُمَا دُونَهُ.
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ظَهَرَتْ عَلَى مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَتَمْنَعُ ظُهُورَ يَدِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ كَمَا مَنَعَتْ ظُهُورَ يَدِهِمْ عَلَيْهِ نَفْسِهِ لِسَبْقِهَا.
أُجِيبُ بِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ صَارَ لَهُ يَدٌ بِلَا مِلْكٍ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِيهِ فَيَبْقَى فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْغَائِبِ فَيَمْلِكُهُ الْكُفَّارُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ سَبْقَ الْيَدِ يَمْنَعُ اسْتِيلَاءَهُمْ عِنْدَهُ، فَإِنَّهَا يَمْلِكُونَ الْمَالَ بِإِبَاحَتِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَدٌ لِأَحَدٍ، وَإِلَّا مَلَكُوا الْعَبْدَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ عَلَيْهِ يَدٌ فَتَدْفَعُ الِاسْتِيلَاءَ الْمُوجِبَ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ قَائِمٌ.
وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ يَدَهُ ظَهَرَتْ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَكَانَتْ ظَاهِرَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَاعْتَبَرْنَاهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ الْمَالِ.
وَدُفِعَ بِأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَالٌ مُبَاحٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ)؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ عَبْدًا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ، فَيُقَامُ الشَّرْطُ وَهُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ تَخْلِيصًا لَهُ، كَمَا يُقَامُ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ مَقَامَ التَّفْرِيقِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا، وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ كَانَتْ مُتَعَيِّنَةً) حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْبَيْعُ) فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَدَفَعَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ (وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَبْرُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ عَبْدًا فِي يَدِهِ) وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِدَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ؛ لِثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا عَبْدًا مُسْلِمًا دَارَ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ الثَّابِتُ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ حَالَةَ الْإِحْرَازِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ إلَّا لِوُجُوبِ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ عَنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ) فَهُوَ الْوَاجِبُ بِالذَّاتِ إجْمَاعًا، وَوُجُوبُ الْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ لِيُتَوَصَّلَ إلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ تَعَيَّنَ إخْرَاجُهُ بِعِوَضٍ بَيْعًا طَرِيقًا حَالَ قِيَامِ أَمَانِهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ بِأَخْذِ مَالِهِ، وَلَوْلَاهُ لَأَعْتَقْنَاهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا زَالَ أَمَانُهُ، وَسَقَطَتْ عِصْمَةُ مَالِهِ بِوُجُودِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَجِبُ التَّخْلِيصُ بِالْإِعْتَاقِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ إعْتَاقَ الْقَاضِي قَدْ تَعَذَّرَ بِحُلُولِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إذْ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عَلَى مَنْ هُنَاكَ فَأُقِيمَ شَرْطُ زَوَالِ عِصْمَةِ مَالِهِ، وَهُوَ دُخُولُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقَامَ عِلَّةِ عِتْقِهِ وَهُوَ إعْتَاقُ الْقَاضِي (كَمَا أُقِيمَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقَامَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي) بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِبَائِهِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ اسْتِرْدَادِهِ، فَإِذَا أَعْتَقْنَاهُ عَلَى الْحَرْبِيِّ حِينَ أَحْرَزَهُ أَبْطَلْنَا حَقَّ اسْتِرْدَادِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ إلَى رِقِّهِ جَبْرًا فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا لِلْمُقْتَضِي عَنْ عَمَلِهِ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَا يُفَرَّقُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ وَلَمْ يَهْرُبْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُعْتَقُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ الْقَهْرِ الْخَاصِّ وَقَدْ عُدِمَ إذْ زَالَ قَهْرُهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ.
وَلَهُ أَنَّ قَهْرَهُ زَالَ حَقِيقَةً بِالْبَيْعِ، وَكَانَ إسْلَامُهُ يُوجِبُ إزَالَةَ قَهْرِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْخِطَابُ بِالْإِزَالَةِ فَأُقِيمَ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ مَقَامَ الْإِزَالَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا وَخَرَجُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى بِعِتْقِهِمْ وَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ أَوْ بِالِالْتِحَاقِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، إذَا ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ، وَاعْتِبَارُ يَدِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ ثُبُوتًا عَلَى نَفْسِهِ، فَالْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَفِي حَقِّهِمْ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا كَانَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ) أَسْلَمَ وَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى (ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ عَبِيدٌ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ) مُسْلِمِينَ، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ (لِمَا رَوَى) أَبُو دَاوُد مُسْنَدًا إلَى عَلِيٍّ قَالَ: «خَرَجَ عَبْدَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَكَتَبَ مَوَالِيهمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا خَرَجُوا رَغْبَةً فِي دِينِك، وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنْ الرِّقِّ، فَقَالَ نَاسٌ: صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ فَقَالَ: هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَفِيهِ أَحَادِيثُ قَدَّمْنَاهَا، وَمِنْهَا إسْلَامُ عَبِيدِ الطَّائِفِ، وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَالْمُنْبَعِثُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهَا فَهَذَا دَلِيلُ عِتْقِهِمْ إذَا خَرَجُوا مُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا عِتْقُهُمْ إذَا ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ فَلِأَنَّهُ لَمَّا الْتَحَقَ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ كَأَنَّهُ خَرَجَ إلَيْهِمْ فِي أَنَّهُ امْتَنَعَ بِهِمْ.
وَقولهُ: (وَاعْتِبَارُ يَدِهِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا عَرَضُهُ لِلْبَيْعِ فَبَاعَهُ، فَقَدْ وَرَدَتْ يَدُ الْغَانِمِينَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي اسْتِرْقَاقَهُمْ.
أَجَابَ أَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِحَقِّ الْمَوْلَى لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ.
ثُمَّ هِيَ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا فِي الْمَوْلَى الْكَافِرِ فَيَسْتَحِقُّ الْحُكْمَ بِعِتْقِهِ تَخْلِيصًا لِلْمُسْلِمِ مِنْ إذْلَالِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ أَصْلِ الْيَدِ لَا يَكْفِي مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ إذْ لَا قُدْرَةَ بِدُونِهِ فَكَانَتْ مَنَعَةُ الْغَانِمِينَ هِيَ الْمُؤَكِّدَةُ لَهَا فَيُعْتَقُ.
هَذَا وَلَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ فَهُوَ رَقِيقٌ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَيُعْتَقَ.
قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ بَعْدَ قولهِ وَلَا يَثْبُتُ وَلَاءٌ: أَيْ لَا يَثْبُتُ وَلَاءُ الْعَبْدِ الْخَارِجِ إلَيْنَا مُسْلِمًا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا عِتْقٌ حُكْمِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا وَلَمْ يُظْهَرْ عَلَى الدَّارِ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا إذَا عَرَضَهُ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيْعِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ الْعَبْدُ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ اسْتَحَقَّ حَقَّ الْإِعْتَاقِ بِالْإِسْلَامِ لَكِنَّا نَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ؛ لِيَزُولَ بِهِ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَلَمَّا عَرَضَهُ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ، وَقَيْدُ الْمُرَاغَمَةِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا لَوْ خَرَجَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِأَمْرِهِ لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ كَذَلِكَ فَأَسْلَمَ فِي دَارِنَا حُكْمُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْإِمَامُ وَيَحْفَظَ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِأَمَانٍ صَارَتْ رَقَبَتُهُ دَاخِلَةً فِيهِ، كَمَا لَوْ دَخَلَ سَيِّدُهُ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ.
فُرُوعٌ:
وَلَوْ جَنَى عَبْدٌ جِنَايَةً خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ دَيْنُهُ ثُمَّ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ دُونَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الرَّقَبَةِ وَلَا تَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، حَتَّى لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَفِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ.
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغَنِيمَةِ فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى فَكُلٌّ مَنْ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ تَبْطُلْ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بِهِ نَفْسُهُ فَلَا تَبْطُلُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْقِصَاصِ.
وَلَوْ وَقَعَ الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ اشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَوْلَى نَفَذَ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؛ وَلِأَنَّ وَلَاءَهُ لَزِمَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ بِلَا عِتْقٍ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا قَابِلَةً لِلنَّقْلِ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ، بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ فِي الْعَيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يَعْدُو مَحَلَّهُ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا فَفِي الْمَآلِ هُوَ مَحَلٌّ آخَرُ، بِخِلَافِ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ قَوِيٌّ لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ.
وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِلَا فَسْخٍ، وَالنِّكَاحُ أَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ، وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَا أَخَذَ مِنْ عُقْرِهَا، وَأَرْشِ جِنَايَةٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ لَمْ يُزَوِّجْهَا الْمُشْتَرِي فَلَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الْمَوْلَى وَثُبُوتُ حَقِّ أَخْذِهِ لَا يَمْنَعُ وَطْءَ الْمَالِكِ.
وَلَوْ أَسَرُوا جَارِيَةً مَرْهُونَةً بِأَلْفٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا وَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ أَخَذَهَا مَوْلَاهَا الرَّاهِنُ بِهَا وَلَمْ تَبْقَ رَهْنًا؛ لِأَنَّهَا تَاوِيَةٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ كَالْمُجَدِّدِ لِمِلْكِهَا فَلَا يَأْخُذُهَا الْمُرْتَهِنُ إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ الْأَلْفَ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الثَّمَنَ فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ.
وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ، وَكَذَا إذَا صَارَ ذِمِّيًّا، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ؛ وَلَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْمَالُ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَبْدًا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ إعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَإِذْلَالِهِ.
وَلَوْ أَسَرُوا جَارِيَةً وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ عَارِيَّةً أَوْ إجَارَةً فَحَقُّ الْأَخْذِ إذَا أُخْرِجَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ غَنِيمَةٍ لِمَالِكِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ لَا لِلْيَدِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مِنْ الْمُودَعِ وَمَنْ ذَكَرْنَا لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاسْتِرْدَادُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِهِ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالْغَصْبِ، بِخِلَافِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَلَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ غَايَةَ إحْرَازِهَا تُوجِبُ أَنْ يَمْلِكُوهَا، وَنَقْلُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ كَالْبَيْعِ، وَالتَّبَايُنُ الْقَاطِعُ لَهُ مَا هُوَ تَبَايُنٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْمُسْلِمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَقِيقَةً.